لم أكن أعرف أن لحظة واحدة… يمكن أن تُعيد تشكيل قلبي كله.
كنت أمشي مع جدّي في أحد أحياء المدينة القديمة، حيث الضجيج يختفي تدريجيًا، والشمس تبدأ في الغروب ببطء، كأنها تودّع الأرض بقبلة خفيفة. كنت أفكر في دروسي، وفي لعبة جديدة أردتُها، وفي كيف أنّ الجميع يُريدون أكثر… أكثر ألعابًا، أكثر هواتف، أكثر أشياء لا تُهمّ أحدًا حقًا.
ثم رأيته.
كان جالسًا على كرسي خشبي مُهترئ، في زاوية بسيطة من حائط مُتصدّع، يُطلّ على طريق لا يمرّ به أحد سوى القطط والطيور. لم يكن يرتدي ملابس فاخرة، ولا كان يحمل شيئًا سوى كيس صغير من القماش، وقطعة خبز قديمة، قطعة واحدة، مُجففة من الجفاف، لكنها نظيفة، وكأنها مُعدّة بعناية.
لم أنتبه إليه في البداية… حتى رأيتُ حركة صغيرة.
أول سناجب ظهرت من بين أوراق الشجر، خفيفة كأنها خيال، تقترب بخطوات مترددة، كأنها تخشى أن تكون هذه المرة الأخيرة التي تُمنح فيها ثقة. ثم جاءت ثانية… ثم ثالثة… ثم أربع. لم تُصدر أي صوت. لم تُحاول أن تسرق. فقط جلست، تنظر إليه… وتنتظر.
وأنا… أنا وقفتُ خلف شجرة، مُتحجّرًا، لا أتنفّس.
لم يقل شيئًا.
لم يُنادِهم.
لم يُمسك بهم.
لم يُصوّرهم.
لم يُشاركهم على السوشيال ميديا.
فقط… فتح كفّه.
ووضع قطعة الخبز ببطء، كأنه يُعطيها هديةً لملكٍ لا يملك تاجًا، بل فقط عيونًا تُضيء من الداخل.
ثم جلس… وانتظر.
لم يأكل هو.
لم يطلب شكرًا.
لم يبتسم.
لم ينظر إليّ.
لكن… في عينيه؟
في عينيه، كان هناك شيء… لا أستطيع وصفه.
لم يكن حزنًا.
ولم يكن فرحًا.
كان… سلامًا.
كأنّه قال: "أنا هنا… وأنت هنا… وهذا يكفي."
لم أفهم ذلك في تلك اللحظة. لكنني شعرتُ به.
شعرتُ أنّ قلبي… توقف عن التساؤل: "لماذا لا أملك هذا؟" أو "لماذا لا يُعطونني ذلك؟"
وبدلاً من ذلك، بدأ يسأل:
"ماذا أعطيتُ اليوم؟"
لم أعد أفكر في لعبة الفيديو التي أريدها.
لم أعد أشتكي لأن أمّي لم تشتري لي حقيبة جديدة.
لم أعد أقارن نفسي بأصدقائي.
لأنّ هذا الرجل… لم يكن يملك شيئًا… لكنه كان يمتلك الأكثر قيمة.
الرحمة.
اللطف.
الوجود.
لم يُعطِ الخبز لأنه يملك فائضًا… بل لأنه أدرك أنّ الحياة لا تُقاس بما نملك… بل بما نُعطي… حتى عندما لا نملك شيئًا.
في تلك اللحظة، تذكّرتُ أنّ جدّي كان يقول لي دائمًا:
"الإنسان لا يُقدّر بماله، بل بقلبه."
لكنني… لم أكن أفهم.
حتى رأيتُ السناجب تأكل… وتنظر إليه… ثم تختفي بين الأشجار… ثم تعود بعد دقيقة… تحمل معها قطعة صغيرة من عشب… وترميها بجانب قدمه، كأنها تقول: "هذا منّا… لأنّك أعطيتَنا."
فجأة… لم أعد أرى رجلًا عجوزًا يجلس على كرسي.
رأيتُ رجلًا يبني جسرًا من لطف… بين عالمين: عالم الإنسان، وعالم الطبيعة.
لم يطلب شيئًا… لكنه حصل على أكثر مما يملك أي ملياردير:
ثقة.
ولاء.
سلام.
وأنا؟
أنا الذي كنتُ أطلب أشياء لا أحتاجها… أصبحتُ أشعر بالذنب.
في تلك الليلة، لم أنم.
فكرتُ: ماذا لو…
ماذا لو أعطيتُ صديقي قلمي عندما نسيه؟
ماذا لو أعطيتُ أختي الصغيرة جزءًا من حلوىّ؟
ماذا لو ابتسمتُ لشخص لا أعرفه… فقط لأنّه يبدو متعبًا؟
في اليوم التالي، فعلتُ ذلك.
أعطيتُ قلمي لزميلي… وابتسمتُ لسائق التاكسي… وقلتُ لجدّي: "أحبك."
لم يقل شيئًا. فقط لمس رأسي… ونظر إليّ بنظرة… مثل نظرة الرجل العجوز.
منذ ذلك اليوم، بدأتُ ألاحظ.
لاحظتُ أنّ الأم التي تُعطي ابنها آخر قطعة خبز في المنزل…
وأنّ المعلمة التي تُعطي وقتها لطالب ضعيف…
وأنّ الكلب الذي يحرس باب البيت بلا مكافأة…
كلهم… يمارسون نفس الفعل.
العطاء… بدون انتظار الرد.
ليس لأنّهم أبطال.
ليس لأنّهم أغنياء.
بل لأنّهم… إنسانيون.
أصبحتُ أحمل معّي دائمًا قطعة خبز صغيرة… في جيبي.
أحيانًا أُعطيها لطير… أو لقطّة… أو لشخص يجلس وحيدًا على مقعد في الحديقة.
لم أعد أنتظر شكرًا.
لم أعد أبحث عن "إعجاب".
لكنّي… أشعر بسكينة… لا أعرف من أين تأتي.
لأنّي تعلمتُ من رجلٍ لا يعرف اسمي…
أنّ القيمة الحقيقية للإنسان ليست في ما يملك… بل في ما يُعطي… حتى عندما لا يملك شيئًا.
ربما لن يتذكرني أحد.
ربما لن يُكتب اسمي في كتاب.
ربما لن أُصبح مشهورًا.
لكنّي… أعرف أنّي، في لحظة واحدة، تعلمتُ كيف أكون إنسانًا.
وأنا أُعطي… أشعر أنّي أُعيد تشكيل العالم…
قطعة خبز… ابتسامة… كلمة طيبة…
كلها… مثل حبات رمل… لكنها تبني شاطئًا كاملًا.
أحيانًا، حين أكون وحيدًا… أفتح عيني… وأرى ذلك الرجل.
أرى يده المتعبة… وأرى السناجب… وأرى السلام.
وأقول لنفسي:
"لا تنتظر أن يُغيّرك العالم.
كن أنت… التغيير."
